النقد الفنى

         
     

 

اراء نقدية بقلم

 كارميلو سترانو

"انتهج جمال مليكة علي مدي مشواره الفني نهجين ميزوا أعماله الفنية ألا وهما:- الجدلية والتزامنية. فأما عن التزامنية فقد تبدو واضحة من خلال الإحساس المنبعث من أعماله والذي يعكس صورة العالم الإجمالية المتأصلة في وجدان الفنان المصري؛ هذا البعد الفني الذي ارتبط بشدة بمليكة وظل ملازما له طوال فترة درا ستة بأكاديمية الفنون الجميلة ببيرا بميلانو وعمله بمجال فن رسم المشاهد ؛ ولقد نجح مليكة في استثمار هذه الخبرة بشكل جيد مما بدا واضحا في رسوماته الفنية وبعض التراكيب الخاصة به. كذلك فان لوحاته الفنية والتي غالبا ما تتسم بالموازنة بين النظرة التجريدية والتمثيل الواقعي تأتي كاستعراض مطلق للون وماهيته؛ فما أريد قوله أن اللون يعد أداة غير فعالة لعرض الموضوع أو تقديم الرسالة كذلك فان الشكل لا يعرض سوي بعض الإطارات والخطوط التي لايمكن استقصاء معني واضح منها؛ وعلي كل فأن المخاطرة في هذه الحالات تكون من خلال إدخال وإقحام بعض الخطوط المزخرفة كما لو كان الأمر مجرد محاولة للتخفيف من وطأة اللون من أجل إظهار المضمون والذي يبدو انه لا يحظى باهتمام كبير عند مليكة وبهذا نقول أن البعد التصميمي يتم التعبير عنه من خلال اللون. أما بالنسبة للتركيبات الفنية فيجب أن نقول بأن مليكة قام بتحقيق المعادلة الصعبة بين المضمون وطرق التعبير عنه ويبدو هذا جليا في قطعه الفنية التي تخلو من أي استبدادية بل علي العكس أتت كمزيج رائع بين الشكل والمضمون المتناول في العمل؛ علما بأن هذا العمل سيستمد قوته ودعمه من قوة الأسلوب واللغة الفنية المستخدمة به ,كما انه لا يمكن أ ن نغفل ما قام به جمال مليكة من ابتكار لبعض الأنماط التعبيرية والمتمثلة في تتابع العناصر؛ كذلك استخدامه لخامات تتسم بالتقنية الحديثة بجانب اللون العادي الذي مازال يلعب دور فعال رغم تتابع العصور علية ولعل هذا الاستخدام لتلك الأدوات الحديثة يبدو واضحا في احدي أعماله الفنية الذي أتمها منذ قرابة عامين وتم عرضها في إطار مهرجان بينالي القاهرة.
ونعود مرة أخري للحديث عن الجدلية والتزامنية, تلك الاتجاهات التي تعد النواة الرئيسية
 التي ترتكز عليها أعمال مليكة. أما بالنسبة للاتجاه الأخر فهو اتجاه معارض؛ فنحن هنا لا نقصد المظاهرة بل المطابقة ولا نقصد البروز أو الظهور ولكن الاختفاء والانغماس؛ نحن ألان بصدد الحديث عن تلك الأعمال التي تم الاتفاق علي طرحها للعرض؛ تلك الأعمال التي كرس لها مليكة _ بكامل السعادة والرضا_ الأربعة أعوام الأخيرة فالريشة الحرة والمظهر الحر هما الأبطال علي مسرح مليكة؛ فبالرغم من انفعالات الفنان الجامحة التي لا يمكن استيعابها في بعض الأحيان فان المظهر الحر والتعبير الحر عند مليكة هما ترجمة حقيقية لنظرته حيال الثقافة والتاريخ الواضح والجلي في تلك الأعمال والتي يمكن أن نطلق عليها دينامكية الطبقات ؛ تلك الأعمال التي عبر مليكة من خلالها عن ثقافته وقناعته الشخصية وعن العادات المصرية العتيقة التي تعود إلي ألاف السنين ولكنها لا تخلو في الوقت نفسه من التأثير الغربي ويمكن أن نضيف أنه في تلك الأعمال التي أطلقنا عليها من قبل دينامكية الطبقات تبدو الصبغة الغربية غير مرئية إلي حد كبير بينما التعبير الحر يرتبط  بروح الثقافة المصرية أكثر من ارتباطه بالتخيلية المصرية وهنا يأتي جمال معبرا عن الترسبات الثقافية العالقة به دون أي تدخل لاعتبارات رسمية أو عقلية فهو يقوم بتجسيم مكنون الدلالات المعبرة لديه ولكن بأسلوب فطري بحت يخلو من التعقيد, بالإضافة إلي أنه قام مليكة باستخدام مادة الراتينج لتشكيل العديد من المجسمات والكتل التي غطاها بقشرة من الذهب والفضة مما أضفي عليها صبغة خاصة أعطت أعماله عبق خاص وكأنها قطع أثرية بجانب أنه لم يغفل استخدام الأخشاب تلك التي تميز أيضا أعماله والتي تصبح بهذا الشكل مزيج من الرسم والنحت؛ ذلك النحت الذي يبتعد تمام عن الشكل التقليدي المستدير سواء كان هذا النحت بارز أو مسمط. ولعل تلك الطبقات الدينامكية تعتمد في بعض الأحيان علي نظرية اللون الواحد سواء كان الأبيض أو اللبني ( الأزرق الفاتح) أو الرمادي وفي أحيان أخري علي تعددية الألوان التي تتأرجح بين الألوان الصارخة أو النارية والألوان الهادئة ومن هنا نقول ونؤكد علي ان اللون هو بطل الأحداث فهو الذي يعطي الديناميكية والحيوية للعمل ويتوغل بين طياته ولكن بالرغم من كل هذا فان الحدث يبقي جافا وصلبا كما لو كان مجرد رصد تاريخي فقط                                              " 

       

 

              كارميلو سترانو

 

 


كارميلو سترانو

 
               
   

أسامة عفيفي

 

 

 

أبو الهول وأيقونة جمال مليكة الملحمية
أسامة عفيفي

احذروا هذا الفنان.. نعم احذروا جمال مليكة؛ فهو دائمًا يوقع المشاهد لأعماله، والنقاد المتابعين لإبداعه فى مقالب من الوزن الثقيل..
إنه مخادع ظريف.. مليء بالرعونة الطفولية؛ يشير إلى الشمال بينما يتوجه إلى الجنوب، ويشير إلى الغرب بينما هو متوجه إلى الشرق، يخدعك ببراعته الفائقة فى استخدام خامات "لا يبوح بأسرارها لأحد"؛ ليوحى إليك أنه يمجد التقنية والمهارة الفائقة، بينما هو يرسم من وراء طبقات الخامات "السرية السحرية"، كائنات روحه.. وأحلامه المحبطة.. ومخاوفه.. وهواجسه وجذوره وأشواقه
.
ولقد كشف لعبته ذات مرة الفنان والناقد الراحل أحمد فؤاد سليم، عندما قال فى تقديمه لأحد معارضه بقاعة إخناتون: "أن جمال مليكة، فنان يحاول أن يظل حيًّا عند ذلك الخط الفاصل بين الوجود والعدم
..".
لقد لخص سليم ببراعة ثاقبة مشوار مليكة الفنى والإنسانى الدراماتيكى منذ بداياته، وهو صبى صغير يتعلم الرسم فى نادى المواهب فى الستينيات، تحت إشراف مباشر من "راغب عياد، وحامد ندا، وغالب خاطر"، حتى دراساته الأكاديمية بأكاديمية بريرا للفنون فى ميلانو بإيطاليا
.
ما علاقة تحذيرى الافتتاحى من جمال مليكة بوقوفه الدائم عند الحد الفاصل بين الوجود والعدم الذى كشفه سليم؟
!
الحقيقة أن أعمال مليكة وإبداعاته التى تنوعت بين التصوير، والسينوغرافية، والنحت، والأعمال المجهزة فى الفراغ.. هى وقفة "هامليته" شجية عند الحد الفاصل بين الوجود والعدم التى ألقى سليم الضوء عليها، وإن كنت أختلف معه ومع الكثير من النقاد الكبار، الذين كتبوا عنه، ووضعوه فى خانة ما بين: التجريد والتشخيص، وما بين الحداثة والتراث، وما بين الشكلانية والموضوعية
.
والحقيقة أن جمال مليكة لا يقف بين هذه المتناقضات أبدًا؛ بل إنه يجمعهم جميعًا فى "عجينة" واحدة، ليغمس فرشاته فى هذه العجينة؛ ليرسم الواقع كما يراه؛ فتشف أعماله من وراء تراكم الخامات، والتقنيات، والخبرات، عن واقعية لا ضفاف لها كما يقول جارودى: واقعية تختزل الواقع الذى يراه هو ولا يراه الآخرون؛ فالفنان دائمًا سواء كان شاعرًا أو موسيقيًا أو رسامًا؛ يرى ما لا يراه الآخرون، يربط ما بين الشجرة وسلك الكهرباء ومقعد المقهى برباط سحرى، لا يراه من رأى المقعد أو الشجرة أو سلك الكهرباء متناثرين.. فالفنان هو من يعيد تركيب الواقع كما يراه، ويعيد اكتشافات العلاقات بين الأشياء؛ ليرسم هو واقعًا مغايرًا ما أن يراه المشاهد حتى يسرى فى أوصاله سحر الفن والابتكار
.
ولأننى كنت ومازلت مؤمنًا، أن عالم الجمال أو الناقد أو الكاتب
 فى الفن كما يقول الفيلسوف الفرنسى باش: ليس بمتأمل تنحصر مهمته فى الإدراك الحسى، كما أنه ليس بفنان يصدر فى عمله عن إلهام فنى؛ وإنما تنحصر مهمته فى فهم الظاهرة الجمالية، والعمل على توضيحها فى أذهاننا؛ بمعنى أننا لا نسقط ذواتنا على العمل الفنى، ونعيد إنتاجه فى كتاباتنا كما نراه نحن، وإنما لابد أن تكون مهمتنا – مهمة الكاتب أو الناقد – أن يجمع ذاته من أجل الإنصات إلى حديث موضوع الجمال، والحكم عليه من وجهة نظر الفنان، لا من وجهة نظرنا نحن.. كما يقول عالم الجمال الفرنسى ريمون بايير.وقد يسألنى سائل: لماذا أذكر ذلك وأنا أتحدث عن "ألاعيب مليكة المخادعة" فى اللوحة..
والحقيقة أن ذلك سؤال مشروع جدًا؛ لأن أعمال مليكة نفسها هى التى تتحدث بخطوطها وألوانها وعجائنها وتكويناتها للمشاهد.. أى أن هذه الأعمال بمفردات لغتها التشكيلية؛ هى التى تخاطب البصر، دون أى وسيط أو إسقاط أو هكذا، ينبغى أن تكون ...، فينبغى أن تكون مهمة الكاتب هى كشف الظاهرة الجمالية كما يقول "باش
".
فأعمال جمال مليكة بواحة تمتلك أبجديتها الشكلية، وتستطيع أن ترسم لنا من خلال جولة بانورامية فى أعماله المختلفة تصوره للعالم، وموقعه المنحاز لجمال الوجود، وتأسيس عالم جميل يواجه قبح العدم
..
ولقد استطاع مليكة فى معرضه هذا، الذى يعزف فيه على إيقاع تجليات أبى الهول، أن يستخدم مفرداته وأبجديته وخبرته فى تقديم عالم الوجود الجميل فى مواجهة قبح العدم، كما أسلفت
.
 فأبو الهول نفسه، هو حارس بوابة الخلود الواقف عند هذا الخط الوهمى، بين عالم الأحياء وعالم الراحلين.. بين الوجود العينى المتوهج، وبين
ثلجية الفناء الماورائية الغامضة.
ولقد حاول فى هذا المعرض أن يجيب على العديد من الأسئلة، والإشكاليات الإنسانية والفنية معًا.. فأبو الهول كائن "ملغم" بالإيحاءات السابقة التى توارثتها الأجيال؛ فهو هذا الكائن الغامض.. وهو هذا الكائن الصامت الذى لا يتحدث، وهو الشاهد على الماضى والحاضر، ولكنه قبل ذلك كله "عمل فنى" ضخم، وهى إشكالية ضخمة لأى فنان.. كيف يمكن لفنان أن يبنى عمله الفنى على عمل فنى آخر، ويعيد إنتاجه فى لوحته؟!
الإشكالية الثانية أن "أبا الهول"، كائن غرائبى طبيعى؛ فهو رأس إنسان وجسم أسد. ورغم غرائبيته، فإن المصريين والبشر فى العالم كله يتعامل معه ككائن واقعى تمامًا متناسيين غرائبيته.. ربما بحكم الأمر الواقع، وربما لأن أرسطو قد أباح للفن الملحمى أن يتخلى عن المحاكاة فى موضوعه، وأن يبتكر كائنات غير واقعية، إذا ما فرضتها شروط الملحمة؛ بحيث يصبح وجودها "الملحمى" أكثر واقعية من الكائنات المعاشة والمشاهدة فى الحياة
.
هاتان الإشكاليتان، واجهتا جمال مليكة وهو يبدع هذا المعرض بتجلياته المختلفة.. أقصد أبو الهول من حيث هو "كائن فنى"، ومن حيث هو "كائن ملحمى".. وكان الحل الوحيد الذى يفرض نفسه على جمال مليكة كما تشى لوحاته؛ هو أن يتحول أبو الهول إلى "أيقونة"، تحمل العديد من الدلالات والإيحاءات الملحمية التى فرضت على لوحة جمال المزيد من الجلال والصرحية والشموخ، ومحاولة إزالة الغموض والكشف عما يراه هو من وراء أيقونته عن طريق "الكشط" الدائم، واستخدام السكين والتهشير الذى تشترك فيه – كتقنية – لوحات المجموعة كلها
..
وكأن جمال مليكة يحاول بكشطه المستمر لطبقات الألوان والخامات أن يشير للمشاهد إلى الطريق الصحيح لاكتشاف أسرار هذا الجلال وصرحية الشموخ؛ لتخرج من بين طبقات الألوان شخوص وراء شخوص باحثة مثله عن كشف اسرار اللغز الغامض وراء هذا الجلال الجميل؛ إنها الشخوص وظلال الشخوص التى تتوالد من أركان لوحات أغلب المجموعة
.
البعد الأهم الذى أخفاه مليكة فى "أبى هوله" هو "الأنسنة".. فلقد ركز فى لوحاته جميعًا على وجه أبى الهول الإنسانى، وعلى شموخه، واستخدام أكثر من "مدرسة مصرية قديمة" فى رسم ملامح وجهه.. فالمعروف أن تماثيل أبى الهول الصغيرة الموجودة فى متاحف العالم، اتبعت فى أبعادها وتقاليدها النحتية، تقاليد العصر الذى نشأت فيه من صرحية أو دقة فى التفاصيل، أوملحمية، أو رقة ، بل إن أبى الهول "الذكر" يتحول فى بعض اللوحات إلى وجه "أنثوى رقيق"، وأنيق، ورشيق؛ بحيث تتحول "الأيقونة" إلى أيقونة "عابرة للجنس" لتعبر عن الإنسان كمفهوم كلى
.
بل إن اختياراته اللونية: كاللون الأزرق، والبنفسجى، والبنى، وإدخال الأحمر فى الأصفر فى تكوين الأيقونة، أعطاها تجليات عابرة للدلالة؛ بحيث يتحول أبو الهول هنا من "أيقونة مصرية" عامة، إلى ايقونة شخصية لجمال مليكة نفسه.. بل يمكنك أن تترك لخيالك العنان؛ لتتخيل أن جمال مليكة يرسم "أبا هوله" الشخصى، وكأنه يرسم "صورة شخصية لنفسه"؛ بتحولاتها، وتبدلاتها، وتطوراتها، ومعاناتها، ليصل فى النهاية إلى تسليط الضوء على ذاته الفردانية الممتلئة بالاغتراب، والرغبة فى الإنعتاق من أسر الازدواجيات الثقافية والفكرية، التى يعانى منها كإنسان فى عصر العولمة.. كى يلمس ذاته الواقفة بشموخ عند الحد الفاصل ما بين جمال الوجود وقبح العدم
.
لقد استطاع مليكة أن يعزف لحنه الشجى على إيقاع خطوطه المستقيمة والخشنة.. المتصارعة مع خطوطه الحانية والتى تظهر من وراء تهشيراته المفاجئة، وكشطات سكينه الجريئة؛ ليبتكر أيقونة معاصرة معجونة بأسئلة الإنسان المعاصر، وتطورات تقنيات الفن الحديثة، والبراعة الأدائية الفائقة، وملحمية أبى الهول حارس الحضارة منذ أن شق نهر النيل مجراه حتى اليوم
.
وأعتقد جازمًا، أن هذه التجربة ستفتح لجمال مليكة أبواب مرحلة فنية ملحمية جديدة، تتجلى فيها قدراته وموهبته وواقعيته، ليقف أكثر صلابة عند الخط الفاصل ما بين الوجود والعدم

  أسامة عفيفي        

 

   
               
   



جمال القصاص

 

 

 

اللعب على حواف الزمن والحلم – جمال مليكة .. اللوحة أثر

الشاعر والناقد /جمال القصاص

 

ما بين جماليات الأثر الذي مضى ليبقى ،وبين زخم الواقع  الراهن الذي يبحث عن بذرة أمل ليصنع المستقبل ،يحتضن الفنان جمال مليكة لوحته ،يختبر شهوته الأولى وحريته الأولى في مرايا الزمن والعناصر والأشياء ،بحثاً عن إنسجام آخر في الفوضى ،وبداهة أخرى أبعد من سجايا العقل والعاطفة.

فعلى نحو لافت برزت غواية الأثر في معرضه الذي أقيم بالقاهرة قبل نحو عامين، ولعب فيه مليكة على شخصية أبوالهول وتمثاله الشهير كمحور إيقاع ،ينتظم مفردات وفضاء اللوحة ،وفي الوقت نفسه ينوع مناورته الفنية ،بالإندياح في براح زمن عريق ،يشد اللوحة برمزيتها ودلالتها الجمالية والفكرية، وكأنها تعايش الحاضر بجاذبية الماضي نفسه.

إنه رهان المعايشة والأثر معاً ،يتجلى في خطين يبدوان متوازيين ،لكنهما فوق مسطح الرسم يتقاطعان روحياً وحسياً وحركياً ،بطاقة مشحونة بمعنى الخصوصية، حتى في أقصى لحظات النبش والتجريب الفني.

في معرضه الذي أقيم حديثاً بمركز الجزيرة بالقاهرة ،فاجأنا الفنان بصورتين لكيفية تجلي الأثر في اللوحة ،أو بمعنى أدق كيفية تحول اللوحة إلى أثر يدل على نفسه. الصورة الأولى : تخاظب فيها اللوحة  عين المشاهد من أعلى إلى أسفل ،وكأنه في حالة من الهبوط الرشيق من الخيال إلى الواقع ،وعلى العكس تبدو الصورة الثانية: حيث تخاطب اللوحة عين  المشاهد من أسفل إلى أعلى ،وكأن اللوحة تمثل نقطة انعتاق للعين نفسها ،من ضوء وعتمة مشوهين يفرزهما الواقع بكل تجلياته الإجتماعية والثقافية والسياسية . وعلى مسطح اللوحة تتبادل الصورتان الأقنعة والأدوار والعلامات ،فثمة واقع يبحث عن خيال يحلق في فضائه، وكلاهما الواقع والخيال ظل لأثر غابر أو في طور التكوين لم ينضج زمنه بعد.

هل هي إذن دعوة للحرية؟! تتعدد طبقاتها وملامسها ،بين لوحات منسابة بعفوية ضربات الفرشاة؛ حيث تشكل الكتلة بسمتها البشري أنوثة وذكورة فعل التصوير والتكوين ،ولوحات تعج بحفائر وعجائن الألوان والأصباغ ،مشغولة بحزوزات السكين في الخربشة والقطع والكشط وخلق مسام توحي بحوارية الغائر والبارز، بحثاً عن مساقط مباغتة للنور... هي إذن كذلك ،مغامرة جمالية في فضاء لا يحد؛ فالأصباغ بتراكيبها اللونية المتنوعة، ونسيجها الذهبي اللامع والمطفي ،المطوس المشرب بنثارات ورقائق ذات مسحة فضية ونحاسية وبرونزية ،سطح التكوين ،تاركة ذبذبة بصرية شيقة على عين المشاهد .وفي اللوحات الثانية إستطاع بضربات الفرشاة الإرتجالية أن يشكل إستعارة بصرية ،تلهج بعاطفة مشبوبة ،مسكونة بحسية شفيفة ،لا يمكن تبريرها بسهولة أو إختزالها في فكرة ما فالشخوص بملامحها المموههة والمهشرة تنطوي على نظرة غامضة مترقبة مسكونة بخوف ما ،كما أن الشخوص في ثباتها وحركتها تملأ فضاء اللوحة ،من الأعلى والأسفل ،حتى تكاد تشتق وجودها وأحلامها من حركة الألوان بتموجاتها المزهرية المشرقة ،وتدرجاتها البنية المشربة بمسحة ترابية ،تتقاطع  فيها لطشات من الأزرق والأحمر ،تتراءى كأنها حزم الضوء هاربة من قبضة الزمن.

ويبدو لي أن لغة مليكة التشكيلية في هذا المعرض على نحو خاص ،وفي مجمل أعماله ،مسكونة دائماً بغريزة فنية قلقة مهمومة بالبحث عن إيقاع خاص في اللوحة ،يماثل إيقاع الكون بكل تراكماته وحقبه وتحولات الطبيعه والزمنة والعصور . اللافت أن هذه الغريزة بقلقها وتوترها تحكم فضاء السطح كفراغ مفتوح بحرية على البدايات والنهايات ومن ثم ليس ثمة نسق مسبق للتصميم أو تقنية فنية محددة أو منظور ما ،لكن بدافع من هذه الغريزة يراهن الفنان على بذرة جنينية تقفز بعفوية من لا وعيه إلى فضاء اللوحة ،ليتشكل التصميم تلقائياً من حساسية خاصة باللون ،وتوازنات الكتلة وانحرافاتها في فراغ مراوغ ورخو ما يجعل ضربات الفرشاة تبدو في أحيان كثيرة وكانها رسم ،وفي الوقت نفسه تجدد وهجها وتوترها بمراودة الزمن ،وهو ينسج خيوطه في اللوحة ،وفي خطى البشر والعناصر والشياء.

 جمال القصاص                                                                         

 

   
               
   



إبراهيم عبد الملاك

 

 

 عندما تغني الألوان
بقلم : إبراهيم عبد الملاك
مجلة صباح الخير – العدد 2776- 17 مارس 2009

و كأنه قادم بعمر ابداعي من عمر زمن  المجد المتوالي و الذي امتد آلاف السنين  ... ولد في الجنوب حيث كنوز الماضي و ألق الحاضر المستنير مستلهماً دون تعمد حضارة الوطن الأم  و كانت مشاعره هي أجندة حياته التي اختزلت بعمق آلاف السنين لهذا فهو واحد من الذين يشكلون بابداعهم معبداً يحوي كل صلوات الانتماء . و هو بناء ملون يجمع بوعي قديمه و الحديث  لهذا فأنت في حضرة أعماله في جولته بين التاريخ و المعاصرة .
" جمال مليكة " إسم مبدع تعرفه الأوساط الفنيه في إيطاليا و أوروبا . يرتبط بوطنه بنظرة خاصة فهو لا يذهب للمباشرة في مفرداته . بل هو يدخل مدنها و قراها و حتى فضاءها ليجمع كل ذلك برمزية واضحة في مجاميع البيوت في ريفنا أو أطلال الواحات و أيضاً معابد الأقصر و أسوان دون تفاصيل واقعية و إنما هو يرسم ما تثيره المشاهد و ما وراء الشكل بحثاً عن أبجدية جديدة  في التلوين و اللون و اللذين يحتاجان النظر  بالبصر و الاستيعاب بالبصيرة  ، و كأنه يهديك شكلاً اسطورياً يدع اتقاد خيالك يشاركه في رسم اللوحة  بتلقيك و بحثك عن الناس وراء هذه المجاميع في بيوت و أثار.
و لعل اللون الذهبي الذي يضعه بحسابات بليغه هي دفء الإنسانية التي تتوارى وراء الجدران ، إنه يمنحك شكلاً يفتح لك  شهية الغوص في دهاليز المعنى في أعماله المبهرة و الموحية و المفعمة بدفء يضم إحساسك لتبدأ فوراً علاقة حب و تقدير بينك و بين إبداعه.
ألوان جمال مليكة ثرية و هو يميل إلى الأرضيات الداكنة  الدافئة التي الأسود فيها مفعم بعشرات الدرجات اللونية المختلفة التي تتجمع تحت راية تمكنه ، جوار ذلك  يحب استعمال لونين مرعبين يخاف منهما معظم المبدعين و هما الأزرق الناري " الترا مارين " و الكوبالت و لكنه كما يسيس جواداً جامحاً حتى تستقيم حركته ثم يضع درجاته التي تشبه الآثار و يطعمها باللون الذهبي الثري جداً كرمز لغنى النفس و التنفس الإنساني .
" جمال مليكة " مصري يقف معتداً بجذوره منذ عشرات السنين كمسلة قائمة في قلب ميلانو بإيطاليا منقوش عليها تاريخ حضارة أهدت الإنسانية جمالاً و فكراً و في مركز الجزيرة بالزمالك يرد بعضاً من جميله لمصر في معرضه الجميل .

                                                                                                              ابرهيم عبد الملاك

 

 

   
               
   



مجاهد العذب

 

   

مجاهد العذب
مجله المجله - العدد 27 اغسطس 2014

جمال مليكة ، فنان مصرى مغترب ، حاضر رغم الغياب . يقيم فى إيطاليا لأكثر من الثلاثين عاما ، وهو الأجنبى الوحيد ــ من خارج إيطاليا ــ الحائز على تسع ميداليات رئيس الجمهورية الإيطالية ، وثلاث ميداليات قداسة البابا يوحنا بولس ، والريشة الذهبية من مدينة رافيننا ، وجائزة النقاد الإيطاليين كنحات العام 2011 . أعماله الفنية متنوعة ما بين التصوير والنحت باستخدام خامات مختلفة وتقنيات أداء متفردة وخطوط أكثر حركية متصارعة ، تجمع بين الضل والضوء فى حميمية وتآلف بين الكتلة وفراغها جامعًا الثنائيين معًا ، كتلة تحتضن الفراغ وفراغ ضاغط الكتلة فى آن واحد ، مع المحافظة على المدلول البصرى للفراغ ، وبرغم إقامته الطويلة واغترابه وشهرته العالمية والجوائز التى نالها عبر مشواره الفنى ، فإنه حاضر دائم لم يبتعد عن مصريته ومخزونه البصرى معتمدا تقنية جذوره الممتدة عبر التاريخ ونشأته الريفية وما يدركه من صور وإحالات رمزية وحكايات وعلاقات أهل وحنين متصل لا ينقطع

 

 مجاهد العذب      

 

        
 

 

   
               
   



سماء يحيى

 


 

اسماء يحيى
مجله الهلال ابريل 2014
لمكان

لقد سعى جمال مليكة جاهدا عبر رحلته مع الفن التي بدأت في مصر منذ طفولته في مركز القاهرة للموهوبين حيث تتلمذ على يد أساتذة كبار مثل " راغب عياد – حامد ندا – غالب خاطر "  إلى ترك بصمته و أثره المستمد و النابع من تراثه الأصيل المتأثر و المتفاعل مع تجربة حياته في ايطاليا فتراث الماضي بالنسبة له ليس إلا جزء من الحاضر و البيئة المحيطة به ، هذه البيئة ليست ماضياً بل حاضراً ملموساً في ذهنه و تجاربه و مخيلته فماضيه هو جزأ من معرفته بالحاضر موجداً  بذلك رؤية  مميزة صهر فيها تجاربه و شخصيته و معتقداته و خيالاته و أحلامه واكتشف مساره المميز الذي ميز مسيرته الفنية عبر تطورها منذ البدأ و حتى الآن
.

تلك المسيرة التي  كان فيها الإنسان و علاقته بالزمان و مايتركه من أثر  و مازال هو قضية مليكة الشاغلة فأعماله ما هي إلا مشاهد من الإيقاع المتدفق و المتناغم بين الإنسان و الطبيعة المحيطة به مولداً بذلك رؤية دائرية للزمن تتجدد فيها الحياة و رصده لآثار الروح في الجسد الفاني , و هو ما وضح جلياً في أعمال الفنان كافة سواء النحتيه او التصويرية   . فاختار  لأعماله النحتية  تشكيلات لرجال آتين من عمق التاريخ و مومياوات لفراعين لا يحكمه في تكوينه شيء سوى ابداعه الفني متجاهلاً فيه قوانين الطبيعة و عنصرها المادية  لأن كل هذه عوامل تفقد أهميتها أمام تدفق و إنصهار المشاعر في الحركات المعبرة المتوافقة لهذه المنحوتات .فنجده يذيب و يفكك حدود المادة الإنسانية لتماثيله بفراغات و تجويفات داخل الأثير و الزمان و المكان موجداً حالة من التناغم مع اللامتناهي تعبر بها أرواح تماثيله حدودها الزمانيه  و المكانيه و الوجودية و كل المفاهيم النسبية التي تحكم الجسد الإنساني و تتخطاها لطبيعة الروح الإنسانية  ، فتماثيل جمال مليكة ليست في حالة سكون و إنما هي شكل مجرد لوضع ثابت static إتخذه جسم في حالة حركة أو هو إقتطاع sliced off  للحظه معينه إتخذها جسم في حالة حركة كتجميد للحظة معينه بإحساس معين و يتضح لنا هنا مسعى الفنان للتعبير عن أن الحركة و الإيقاع للحياة ليست حدث فيزيائي خارجي فقط  external بل هي حركة روحية داخلية Internal بالدرجة الأولى تمثل رغباتنا الإنسانية و إرادتنا المادية النابعة من أفكارنا و عقولنا و مشاعرنا كبشر و إنفعالاتنا المختلفة و الذكريات و الذاكرة و كلها مفاهيم تعطي المعنى و الفهم للغة الجسد . ثم ينهي الفنان عمله النحتي بالضوء المطل علينا من تجويف التمثال الضوء ذلك الثابت الأزلي الذي لا يتغير و إنما الأرض بما عليها من حيوات و أمكنة هي التي تدور حوله مما يدعم مفهوم المطلق و تجدد الروح وإعادة البعث في الوقت ذاته .

 

سماء يحيى            

            

 

   
               
   



فاطمه على

 

 

أراء نقدية بقلم فاطمه على
فگرة البقاء في المگان .. گسباق تخطي حاجز بعد آخر
 

معرضه بدا هرمي التركيب الذهني والمفاهيمي.. ذا وجوه ثلاثة راسخة فوق قاعدة واحدة، القاعدة هي الرصيد الفني للفنان جمال مليكة وارتباطه بهويته المصرية رغم بعد المسافة  الزمانية والمكانية التي بلغت 35 عاما فوق الأرض الإيطالية، أما الأوجه الثلاثة لمعرضه الهرمي التي تلاقت في نقطة واحدة أعلي قمة الهرم كانت بمعالجاته للمسطح كوجه أول، والتركيبي المجسم كوجه آخر، والتشكيل الفراغي الخطي كوجه ثالث، لتلتقي الرؤية في نقطة واحدة ذات ثراء ممتد في معالجته ورؤيته المفاهيمية لمعطيات معرضه المقام حاليا في مركز الجزيرة للفنون الذي افتتحه فنان مصر الكبير فاروق حسني وزير الثقافة ليراه كمعرض لفكر عمل تركيبي داخل صالة عرض واحدة.

. وما رأيته من زاويتي يدور حول فكرة البقاء والقفز من حالة لأخري كأن العرض هو سباق تخطي حاجز بعد آخر، وأقصد التخطي بتخطي الفنان للحاجز المسطح من فوق سطح اللوحة إلي الحاجز المادي بتركيباته الجبسية إلي الحاجز الفراغي بتشكيلاته الخطية وليقفز هذا الفراغي في عودة إلي المسطح مرة أخري، وهكذا يبدو عرضه دائرة متصلة لتدفق تيار الوعي أو ربما لتصادم موجات متلاحقة متلاقية لتحقيق حالة توحد بين ثلاثة أوجه للبصرية الذهنية لتلتقي عند أعلي قمة الهرم، والهرم رأيناه مفاهيميا في فكرة المعرض ورأيناه بصريا فوق مسطح لوحاته بظهور العديد من الأهرامات المرسومة خلف وحول شخوص لوحاته في دينامية بين اللون الساخن وتقطعات أنفاس خطوط وشرائح فرشاة اللون في التفافها لتشكل جسد إنساني، وهذا الجسد الإنساني هو نفسه الجسد خارج اللوحة في صالة العرض في تركيبات الفنان للنحت الجبسي المباشر لشخوص انجزها داخل صالة العرض وقد كونها من شرائح لشرائط من الخيش مغموسة في الجبسي حول كيان متماهي بتشكيل به هيئة إنسان في حالات نفسية مختلفة نستشعرها في أوضاعه الخارجية وفيما يعتمل بداخله ونري ما بداخل الجسد دون تفاصيل بل ببقايا تفاصيل وجود، وقد صنع الفنان تركيباته في تلقائية عفوية تتسق وانفعالية خامة الجبس السائلة الرطبة للتشكل وبين خامة الخيش المتعطشة المسام للامتلاء وخامات الأسلاك الملتفة في رغبة الاحتواء.. وهذه الأجسام النحتية المباشرة نراها وهي الوجه الثاني للرؤية الهرمية وكأنه أجري عليها طقوساً وجدانية لعملية تحنيط، عملية تركت أجزاء منها بفعل اندفاع زمن لحظة التشكيل العفوي السريع مهترئة بنفس سرعة رغبة هذه المومياوات الواقفة علي قوائمها الرفيعة مجسدة وما تهفوا إليه للقفز إلي داخل مسطح اللوحة، حيث أهرامات مرسمة تغري برغبة السكن والبقاء الأبدي.

 والوجه الثالث لرؤية الفنان للانطلاق أكثر بمفهومه إلي أعلي نقطة مفاهيمية أراه بتشكيله الخطي بخامات الأسلاك المتعددة التخانات لإحاطة الفراغي واحتوائه كأنه يرسم اسكتشاً في الفراغ، لكني رأيته أكثر من مجرد رسم اسكتشي بالأسلاك، إنه يحتوي طاقة داخلية كأن أسلاكه هذه قطبان تستقطب طاقة تخزنها داخل تجويف فضائي محدود مفتوح علي الخارج في نفس لحظة انفتاحه علي الداخل وقد رأيت هذه التشكيلات السلكية الفراغية كمزيد من محاولة الغوص بصريا إلي أجساد مومياواته المحنطة بشرائح الخيش، إنه هنا يحاول أن يعبر الزمن ليدرك تاريخ هذه الأجساد المهترئة، ربما أراد أن تكتمل احاطة بتاريخ شخوصه علي المسطح ومجسماته المادية وتشكيلاته في الفضاء، وقد بدا لي هذا من فكرة علمية أو ربما طبية حين إلقاء اشعة «X» علي هيكل ما فندرك ماضيه لأنها اشعة توسع قوة معرفتنا للماضي.

 فحين عرضت مومياوات مصرية قديمة لتحليل اشعة «X» اكتسبنا معرفة جديدة عن حياة القدماء وما اخفاه الزمن والتحنيط، فالأشعة ببساطة تكشف ما أصاب الجسد قبلا من كسور والتواءات في هيكلها العظمي والجزعي والمفاصل وعظام الجمجمة والأسنان.

 وفي حالة هذا العرض كشف الفنان مليكة عن أقصي ما يمكن حول الجسد الكتلة وقد زاده تجريدا ومابه من معاناة يتضمنها صامتا صامدا ليدور في مدار فضائي يدفعه للقفز إلي اللوحة، إلي حيث شخوص لوحاته واقفة في لا زمنية وعليها اكفانها تلتف حولها فيما يشبه تعويزة كونية تقترب في كونيتها بتلاقي الأوجه الثلاثة للهرمي فوق نقطة أعلاه تكثف الحس الجنائزي شديد الحضور في معرضه ثلاثي الأوجه الذي ارتكن بوضوح فوق الوجه الرابع الأرضي، حيث أقدام شخوص لوحاته ضخمة راسخة والسيقان كأوتاد في الأرض في مادية شديدة بينما الجسد يموج بخطوط وشرائح لونية تحيطه متحركة في عنف كأنها ادركت فجأة ثقل ماديتها المكبلة لوجودها، بينما قوائم نحته الجبسي والتشكيل الخطي الفضائي نراه رفيعاً وربما هشاً لأنه في كلا النحتي والتشكيلي يهفوان للتحليق لسكن أهرامات اللوحة التي بدت راسخة كالأقدام وكقاعدة الهرم المادية والمفاهيمية لدي الفنان.

 أعلق علي هذا العرض من زاوية أجدها مهمة، فالفن الذهني أحيانا يصبح ماديا بأكمله، وقد قصد مليكة أن يكون النصب النحتي والتركيبي مهلهلا وطارئا، مصنوعا كي يلائم حيزا معيناً وظرفا معيناً في مكان مادي بشكل ذهني مكثف بأقل وأبسط الوسائل.

 وأري هذه الفكرة أو مضمونها تتسق وأحد أعمال النحات جون بوروفسكي المسمي «الرجل والمطرقة» فقد نقل قوة التأثير من الشيء إلي الفكرة، وهذا ما حققه مليكة بثلاثيته المتمثلة في التصوير والنحت المباشر والتشكيل الفضائي إلي فكرة الهرمية.

 لي ملحوظة أخيرة تذكرتها أثناء كتابتي وهي رؤية فلسفية تقول: «إن أكثر ما يوجد عمقا في الإنسان هو جلده».. ولنجد مليكة نزع الجلد عن تركيباته السلكية، وأطاح بجلد شخوص لوحاته، ومزق وسلخ جلود تركيباته الجبسية، وبإحساسي الشديد بجنائزية معرضه أراه يطيح بجلودنا، بذلك الغلاف الآمن لأجسادنا الذي يضمن لنا البقاء، ليجعل من زاوية كأن البقاء أكثر ما يكون بالانسلاخ عن ماديات الجسد.

 وربما عكس الرؤية الفلسفية التي ذكرتها، يري مليكة أن أكثر ما يوجد عمقا في الإنسان هو روحه

 

 

                                                                                                                                             فاطمة على  
.

    

 

                    

   
               
   



شذى يحي

 

 

 

 

"فضاء" جمال مليكة ....رحلة البحث في روح العالم
شذى يحي

عندما سؤل سيزان عن مضمون أعماله رد قائلاً إن ما أحاول أن أترجمه لكم لهو أشد غموضاً ويتشابك مع أصول الوجود ذاتها ومع منهج الإحساسات الذي لا يمكن لمسه ولعل هذا هو السبب الذي أراد من أجله سيزان أن يكون فناناً ،فترى لماذا أراد جمال مليكة أن يصبح فناناً تشكيلياً؟

إن سألت مليكة هذا السؤال سيحكي لك حكايته عندما كان صغيراً ومروره المتكرر على ورشة النحات زوسر مرزوق وقطع الطين التي كان يحصل عليها منه ليلعب بها ويعيد تشكيلها وعن رحلته مع الأصدقاء كل يوم جمعة للهرم ومناجاته المتكررة لتمثال أبو الهول وحلمه أن يصنع يوماً تمثال في حجمه ،وتشجيع حامد ندا وغالب خاطر وراغب عياد له في مدرسة الموهوبين ولكن هل كانت هذه هي الحقيقة؟!

الحقيقة التي وراء هذه الحكايات أن ما دفع مليكة ليصبح فناناً تشكيلياً هي تلك الرغبة الخفية التي دفعت الفنانين منذ بدء الخليقة ليبدعوا فنهم هذه الحقيقة هي ذلك الشعور بأنه الوحيد الذي يدرك العالم وأن لديه القدرة الجسدية والمادية ليجعلنا كمتلقين ندرك هذا العالم معه وبعينيه ويده ورؤيته، وبإيمانه أنه يستطيع أن يضيف لنا نظرة جديدة لوجودنا يعطينا شكل جديد للواقع الغائب عنا حالة من التكامل بين المحسوس والذي يحس ،بين الإدراك العقلي والروحاني ،بين الرائي والمرئي في حركة دائرية متصلة تهدف إلى جعل الوجود الخارجي الكبير جداً والمتشتت وجوداً داخلياً حاضراً برمته في عين الرائي والوجود الداخلي المحصور في داخل حيز النفس وجوداً خارجياً لا محدود في حركة جدلية عبر الزمان وأيضاً تتجاوز حدود المكان والمحسوس والمرئي ، الفنان فقط هو صاحب تلك القدرة العجيبة على إقامة دعائم الوجود في الوسط الإنساني ،ومليكة ببساطة ككل فنان يحمل عالمنا في خلجاته وأعماله تحول العالم المفروض علينا إلى عالم يقيمه هو وهذه هي الإجابة الحقيقية للماذا أراد كل فنان أن يصبح فناناً أو كما يقول موريس ميرلوبونتي "إن المصور يعي بفضل جسده بفضل حلوله في جسده وبفضل حلول جسده في العالم" مليكة يعي هذا تماماً ويستغل لحظة الوعي هذه وهذه الشعلة تماماً في إنتاج أعماله الفنية ولذلك يأتي حرصه على إنتهاج أسلوب التعبير المباشر اللحظي في إنتاج لوحاته حتى لا تتغير اللحظة الزمنية التي يتصل بها مع الوجود الخارجي والداخلي وتتغير حالته الجسدية والفكرية وهذا نابع من وعيه بأن الفن هو أسلوب حياة وعمليتي إنعكاس وخلق غير منفصلتين تحملان في طياتها ثقافة الأزمان الماضية مع عدم إغفال الحاضر الذي يعيشه هو مدرك تماماً أنه شريك في حركة الكون والتاريخ كمرآة وكمحرك في ذات الوقت وبفنه هذا وككل فنان يسعى مليكة أن يكشف لمتلقيه عن روح العالم تلك الروح التي تحرك الكون بشكل خفي وتدفع بحركة التاريخ للأمام ويظهر اللاشيء "العدم" هنا ليس على أنه الوجه المقابل اللامحدود للكائن بل ينكشف بصفته منتمياً لكون الكائن  ، أو كما قال هيجل  "الكون الخالص والعدم الخالص هما إذن الشيء نفسه" فالكون والعدم متلازمان لأن الكون ذاته في ماهيته نهائي ولا يتجلى إلا في تعالي الكينونة على الكائن وتعرضها فيما وراءه للعدم ،والكائن يحتوي من الواقع بقدر ما يحتوي من العدم وكانعكاس للفراغ فإنه يمكن اعتبار العدم كائناً  في حد ذاته بل هو الكائن بسبب نقائه ولا وجود للواقع إلا في قلب الصيرورة وعبرها الناجم عن الفعل السلبي وشمولية قلب الكائن والعدم وهذا التناقض هو المحرك للعلم والفكر ، وهذا الجدل هو أساس التموضع التدريجي للروح الإنسانية التي يرى هيجل أنها دائماً في حالة حركة فالروح لا تستريح أبداً إنها دائماً تتقدم ، وقد لا تشغل كل هذه النظريات مليكة ولكنه يعيها جيداً يعي تماماً أمرين أولهما أن قوام الفن الحقيقي هو الحس والثاني أن مهمة الفنان أن ينتقل من لحظة الجزئي إلى لحظة الكلي من خلال العلم الحقيقي وهو العلم الذي بلغته الإنسانية على تنوع أجناسها وشعوبها عبر أزمنتها ، لقد كتب الناقد الكبير أسامة عفيفي في الفقرة الأخيرة من تقدمته لمعرض "المراقب" الذي أقامه مليكة العام الماضي "أعتقد جازماً أن هذه التجربة ستفتح لجمال مليكة أبواب مرحلة فنية ملحمية جديدة تتجلى فيها قدراته وموهبته وواقعيته ليقف أكثر صلابه عند الخط الفاصل بين الوجود والعدم" وهذا ما حدث فعلاً وتحققت النبوءة في معرضه "فضاء" الذي أقيم في مركز الجزيرة للفنون بالزمالك في الفترة من 4نوفمبر وحتى 18نوفمبر2015م ،فقد ظهر تماماً مدى نضج وتبلور تجربة مليكة التي بلغت ذروة عطاءها فكرياً وحسياً ومعرفياً وظهر تماماً مدى قدرته في أن يعبر في أعماله عن تلك الحالة من الديالكتيك المعرفي التي تشمل أصل العالم في جدليته والثقافة الكونية في انبعاثها وتحقق الوعي الجزئي بكل معاناته وكشوفه فتبدو أشكال مليكة في لوحات هذا المعرض منفتحة لها خطوط منطلقة في حركة أشبه بالطيران الذي لا تخطئه العين لتقيم علاقات بينها وبين الفراغ المحيط بها لتظهر وكأن أجسادها تتحلل بعيداً عن كتل الجسم الكلية في محاولة منها لتتمسك بأهداب العالم في لوحة العناق يباغتك توغل الشكل في الزمان والمكان ليبدو المشهد كأنه حالة عناق كونية فوق مادية حالة من الحرية في ترك الكائن يكون ، في أن يقبل على المجال المنفتح الذي يمكن أن يتجلى فيه كل كائن ففي ترك الكائن ليكون تحدث الحقيقة والحقيقة هي كشف الكائن ، أما أعماله البارزة أو مشاهد الحيوات المتراكبه كما يحلو له أن يسميها بألوانها المستمدة من الأثير والغبار وعناصر الذهب والفضة الرامزة للخلود فقد تمكن فيها مليكة مما أطلق عليه جارودي في كتابه واقعية بلا ضفاف اسم "القواعد الفكرية العميقة للفن الروماني المسيحي" أي قانون الحد الأقصى من الإرتباط المعبر عن العلاقة بين الكائن "الكائن في حالتنا هذه هي البيوت التي  كان ينظر إليها من أعلى بمنظور عين الطائر ويشاهدها بكل عشوائيتها وعيوبها  كأنها أجزاء من أجساد بشرية بيوت أنسنها مليكة وأعطاها حياة ساكنيها وأرواحهم " والخير الذي يتحرك فيهم ويبدو ترابط أشكال البيوت  الملتصقة معاً في كتلة متماسكة كما لو كانت تخضع لقانون جاذبية خاص بها وقانون الحركة المتصلة المتمثلة في الخطوط المتداخلة دون أن يتوقف أحدها في فراغ فالكل يتداخل هنا معاً وخطوط القوى تستمر وتفرض على أنظارنا دورة لانهائية ، دورة تؤكد لنا أن الفراغ الذي نشعر به ونحسه هو الحقيقة الوحيدة التي نعرفها ولكنها حقيقة جدلية لأننا لا نستطيع أن ندرك ما هو أكثر منها ، حتى في عمله التركيبي الذي هو ذروة محاولاته لاكتشاف المطلق والإشتباك معه من خلال الكتلة والفراغ والغائر والبارز والوحدة والتنوع والذي يتبدى فيه ولعه الأكبر بفكرة الربط بين السماء والأرض يبدو اهتمامه الأكبر في إيجاد العلاقة بين الكتل والأجسام والفراغ المحيط بها من خلال طبقاتها وبروزها ورغبته في اكتشاف الفراغ المجهول من خلال ذلك الثقب الذي ينغرس فيه رأس القطعة الفنية محاولاً استكشاف المجهول ونقله للجمهور الواقف تحته وربط تلك الكرات أو العوالم المتشظية مع ذلك العمود الذي هو بمثابة الرابط بين الصاعد والهابط بأرضية من حبات الرمل الصفراء المكون الأساسي  لنسيج المادة كأنه يحاول إيجاد رابط بين ما هو روحي وما هو مادي.  

أما أبو الهول أسطورة مليكة الصرحية التي تجمع بين قدرته على اللعب بالملمس والخط الخشن وتضاده مع الخط اللين وسط التهشير والتقشير الذي يبدو كأنه طبقات وطبقات من الزمن أو أجزاء حكايات من أزمنة مرت على هذا الكائن الملحمي فأعطته وجه من الموزاييك الكوني،  فأبو الهول هنا هو صاحب الوجود الداخلي المحصور في حيزه ويتصارع مع الوجود الخارجي الممثل بالفراغ حوله هذه المرة في جدلية أزلية لأن أبو الهول هو رمز مليكة الأمثل أيقونته الذروة التي اختزل بها ترجمته لكل الشفرات هو اشتباكه الأقوى مع أصول الوجود ومنهج الإحساسات الذي لا يمكن لمسه كما عبر سيزان ،أبو الهول مليكة الذي يتغير ويختلف في الشكل واللون والتكوين هو مفتاح تجربته الذي يواجه بها تيارات الإغتراب ويربطه بالجذور بأصله وتراثه وعالمه الخاص المكتفي المتوحد معه والمعبر عنه ، فيه تشعر بإيقاع عالم يحمل في داخله الإكتمال ونغمية موسيقى الروح فيه حل للغز الوجود كما يراه، "فضاء" يعيد إلى الذهن الكلمة التي قدم بها الراحل كمال الملاخ مليكة في معرضه الأول بالقاهرة وكتب فيها "في الخيال الثائر بكل إبداع ،أعمالك الفنية تذكرني وتنقلني للتو إلى أجواء أساطير الحضارة وعوالم الإيمان".  

                    شذى يحي         

 

   

مونتج الصوت والفيديو انستالاتسيونى  جمال مليكه.   studio RA. © Gamal Meleka تصميم الموقع وتنفيزه   2011-2000